تنتسب الصحراء للمغرب و يمتزج تاريخها بتاريخه منذ فجر الإسلام. وتحدثنا كتب التاريخ بأن الفاتح العربي عقبة بن نافع الفهري اجتاز في منتصف القرن الهجري الأول جبال الأطلس سيرا مع سيف البحر الاطلنطيقي من آسفي إلى ماسة بسوس، و بنى المسجد المنسوب اليه هناك. ذلك المسجد الذي لم يلبث ان تحول الى رباط للقراء و العباد و المجاهدين ومنطلقا لنشر الإسلام في ربوع الصحراء و ما وراءها من بلاد السودان. و من المعروف الثابت تاريخيا ان قبيلتي كدالة ولمتونة الصنهاجيين كانتا ضمن قبائل مسلمة اخرى تسكنان في القرن الهجري الرابع و قبله اقصى الصحراء الغربية مما يلي حوض السينغال، حتى قيل ان هذا الاسم انما هو تحريف لكلمة صنهاجة.
ولا يخفى على احد الدور الذي قامت به دولة المرابطين الصنهاجيين في الصحراء من تركيز السلطة و نشر الوعي الديني والوطني، سواء قبل طلوع ابطالهم الملثمين الى الشمال، او بعد ان اسسوا مدينة مراكش و جعلوا منها قاعدة امبراطوريتهم العظيمة التي ضمت الصحراء الكبرى و شمال افريقيا و الاندلس. و ظلت الصحراء بعد ذلك تابعة لحكم المغرب على عهد دولتي الموحدين و المرينيين.
ولما استلم الشرفاء السعديون مقاليد امور هذه البلاد في مطلع القرن الهجري العاشر – السادس عشر للميلاد، اولوا الصحراء، وهم من ابنائها، ما اولوه من عناية لمسالة الجهاد و مقاومة الاجنبي المحتل للشواطئ، فكان النجاح حليفهم في الواجهتين، و طهروا الصحراء من عناصر الشغب و الفتنة و الانتهازية، و اصبحت طرقها من جديد امنة و المراكز التجارية و المعدنية نشيطة مزدهرة، و القوافل تغدو و تروح عبرها بانتظام من المغرب و اليه .
خضعت الصحراء الكبرى كلها لنفوذ السعديين من المحيط الاطلنطيقي غربا الى حدود ليبيا شرقا الى تخوم السودان جنوبا، بل الى ما وراء هذه التخوم و لم يكن النفوذ التركي في المغربين الاوسط و الادنى يبتعد عن سيف البحر المتوسط الا قليلا في كل من المغربيين الاوسط و الادنى و ظل الحال على ذلك حتى بعد ضعف الدولة السعدية في اواخر عهدها. وقد نص الرحالة المراكشي محمد بن احمد القيسي السراج الملقب بابن مليح في رحلته الحجازية انس الساري والسارب من اقطار المغارب الى منتهى الامال و المارب سيد الاعاجم و الاعارب على انبساط النفوذ السعدي على كل الصحراء الكبرى الى بلاد فزان الليبية. وقد خرج هذا الرحالة مع ركب الحجاج المراكشيين الذين غادروا مدينة مراكش يوم الاثنين اخر صفر من سنة 1040/ اكتوبر سنة 1630م ، و سلك الطريق الجنوبي الصحراوي من درعة الى توات. و في هذا الاقليم اجتمعوا مع ركب الحجاج السودانيين الذين اتوا مع باشا السودان القائد المغربي على بن عبد القادر الشرقي، و كان معه من الفقهاء محمد بن الشيخ المؤلف الشهير احمد بابا السوداني ، و محمد بن عبد العزيز الدرعي، و احمد ابن محمد السوداني. وبعد ان استراح الحجاج في توات سبعة عشر يوما في كنف قائدها المغربي الشيخ عافة، غادر الركبان المراكشي والسوداني هذا الاقليم ليقطعا الصحراء المغربية الشرقية في خمسين مرحلة، كل مرحلة في يوم. والمؤلف يصف هذه المراحل وما فيها من ارض بعل و اودية و ابار و اشجار و كلأ و غير ذلك. و في المرحلة الاخيرة من المراحل الخمسين التي هي نهاية منطقة النفوذ المغربي وجد الحجاج المراكشيون و السودانيون الركب الفاسي الذي يضم حجاج شمال المغرب في انتظارهم هناك تحت اشجار غابة الطلح التي تكسو هذه المنطقة.
و بذلك اكتمل الركب المغربي و دخل في اليوم التالي بلاد فزان، و اضطر حينئذ الى استئذان اميرها الذي ازعجه خبر ورود هذه الاعداد الضخمة من البشر و الدواب و الامتعة و الاسلحة. و في ذلك يقول ابن مليح:
“وصلنا بلاد فزان و قد انتفضت الجراب ، و عجزت الركاب، و ماتت الرواحل، لبعد المراحل، و قد اشرف الناس فيها على المهالك، لولا لطف الواحد المالك. سبحانه ما اعظم شانه و اعز سلطانه ! فاول منزل نزله الركب، وجاد به المولى الرب، قصر ابار صانه الباري. و قد محيت بحول الله الذنوب، فجادت البلاد بخيرها، و اظهرت للناس من برها. فما غربت الشمس، و لا ارتاحت النفس، حتى اقبل الخبر من كل مكان، و ذلك اول منزل من بلاد فزان. فاتصل الخبر باميرها وذكر له من كبر محلتها و عظيم رئيسها، و ان بها شريفا قرشيا، و مملوكا فتيا حبشيا فحار امره لذلك، و طاش عقله هنالك. فوجه من فرسان دولنه، و خدام مملكته، نحو اثنى عشر فارسا لتجسيس و اختبار احوال المحلة و من فيها من الرماة واصحاب التروس، فطافوا بالمحلة و اختبروها، و التقوا بالشيخ و تبركوا منه بالدعاء، فعادوا بسلام، و تيقنوا انهم حجاج بيت الله الحرام”.
و بعد هذا التاريخ بعقود قليلة من السنين استلم شرفاء سجلماسة العلويون مقاليد الامور بالمغرب، فساروا على سنن اسلافهم الاقبال في حماية الحمى و الحفاظ على التراب الوطني من اقصى البلاد الى اقصاها. و ليس بسر تحركات ملوك هذه الدولة من المولى اسماعيل ابن الشريف الى المولى الحسن الاول في الصحراء المغربية، و العناية باحوالها السياسية و الدينية و الاجتماعية و الثقافية.
و نود هنا ان نسوق بعض النماذج التاريخية للحياة الثقافية في الصحراء المغربية، نختارها من عهد السعديين في ثلاثة مراكز علمية فقط، عاش فيها اعلام تكونوا في عين المكان او في شمال البلاد كمراكش و فاس والمحمدية وغيرها، وكان لهم نشاط ملحوظ في الصحراء تدريسا وارشادا وتاليفا.
أ – بني عباس
تقع قرى بني عباس على وادي الساورة جنوب ملتقى الرافدين كير وزوزقانة.و هي – كما راها الرحالة ابو سالم العياشي في اواخر العهد السعدي- “ثلاث قرى متصلة في سفح جبل صغير على شفير الوادي. فيها نخل كثير و فاكهة و بساتين”.
اشتهرت قرى بني عباس كمركز علمي عند ما حل بها احمد بن عبد الله ابن ابي محلى(ت. 1022 هـ/ 1613 الفقيه الاديب الصوفي الثائر. دخل اليها للمرة الاولى وهو في طريقه الى الحج عام 1000 هـ / 1591 فمكث بها ثلاثة اشهر تزوج اثناءها بنت شيخ البلد عبد الله بن محمد ابن شمس الدين العباسي، ثم استقر بها نهائيا بعد رجوعه من الحج، وولد له فيها الاولاد وعاش في رغد وسعة يضيف الزوار الواردين عليه من المشرق و المغرب الاوسط و الاقصى ، و يقضي حاجات العلماء الذين يكاتبونه من مكة والقاهرة وفاس وغيرها، لما كان له من الوجاهة و النفوذ بسبب ناموسه الصوفي ومكانة صهره العباسي، حتى ان احمد المنصور اتخذه كمستشار خاص له بشؤون الصحراء فكان يامر عماله بتيكورارين وتوات بالاتصال بابن ابي محلي والاخذ برايه في المشاكل التي تعترضهم هناك.
اقبل ابن ابي محلي في بني عباس على التدريس وتنوعت دروسه فشملت اللغة و قواعدها والحديث والفقه والتصوف وأخذ عنه (ملأ من خيار الطلبة) –على حد تعبير – وفيها ألف معظم كتبه.
وجاء الى قرى بني عباس في جملة الوافدين على ابن ابي محلي للمقام فيها شهورا او سنين.
– سليمان بن محمد الكومي (ت. نحو 1040 هـ 1630) فقيه اديب متصوف كان من اتباع شيخ فجيج عبد القادر السماحي ، ثم تخلى عنه في جملة المتخلين على اثر الحملة الكبرى التي قام بها ابن ابي محلي في التشهير بذلك الشيخ. وصحب الكومي بعد ذلك ابن ابي محلي و اتخذه شيخا.
– سعيد بن إبراهيم فدورة (ت. 1066/1656) تونسي الأضل جزائري النشأة، تخرج على يد علماء تلمسان متمكنا في المنطق و الكلام، مشاركا في الحديث و الفقه و اللغة. جاء الى بني عباس عام 1015/1606 و اقام بها يدرس مدة غير قصيرة. و خلال شهر رمضان من نفس العام عقد هو و ابن ابي محلي بمسجد القرية دروسا حديثية مشتركة على غرار ما كان يقع في القرويين، فكان قدورة يمسك بيده نسخة البخاري و عليها سنده المتصل بمحدثي تلمسان، و يمسك ابن ابي محلي اخرى بسنده عن الفجيجيين.
ب- تيكورارين
تيكورارين عبارة عن واحة كبرى تقع جنوب شرقي بني عباس، و تشتمل على قصور كثيرة، اشهرها قصبة اولاد عبد الله، وتينميون ام القرى واهمها، و ذكر ابن ابي محلي بحكم الجوار اسماء عدد وافر من معاصريه علماء و ادباء تيكورارين. واورد في كتبه مراسلات ومساجلات ادبية وصوفية معهم.
من علماء تيكورارين وادبائها على عهد السعديين.
– عمر بن صالح الاوكروتي الجراري (ت. قبل 998 هـ/1589 م) فقيه مشارك تخرج في فاس على يد ائمة القرويين ثم انتصب للتدريس في تيكورارين مدة طويلة حتى عد شيخ الجماعة بها. و قد قصده الطلبة حتى من تفيلالت، و منهم الاديب عبد الحكم بن عبد الكريم السجلماسي صاحب المساجلات النثرية و الشعرية مع ابن ابي محلي.
– محمد بن عبد الله ابن عبد الكريم الوطاسي الجراري (ت.بعد 1017 هـ/1608م) فقيه اديب صوفي اسند اليه احمد المنصور مهمة القضاء في تيكورارين و ما و راءها من المناطق الصحراوية، فكان قاضي الجماعة هناك. و لم تصرفه مهامه في الحكم عن التدريس و ارشاد المريدين على طريق الشيخ السماحي.
– محمد بن اسماعيل المسناوي الجراري (ت.1064 هـ/ 1654م) الفقيه المتصوف الثري صاحب المكتبة الغنية بتيكورارين. كان كثير التلاميذ و الاتباع، و قال عنه معاصره الرحالة ابو سالم العياشي بعد ان ذكر كثيرا من احواله: “بالجملة فهذا الرجل اعجوبة زمانه و نادرة وقته سخاء و ذكاء و دهاء و نجد وعلو همة، لولا ما ابتلاه الله به من وسوسة الامارة التي توسوس في دماغه”.
و قد دخل المسناوي معظم بلاد الاسلام غربا و شرقا مدعيا المهدوية فلم يتم له امر، و اخيرا رجع الى مسقط راسه تيكورارين حيث مات بعد ان اعتق عبيده ووزع عليهم ماله، و اوصى بفرسه للجهاد و بكتبه للحرم النبوي الشريف.
ج- توات
توات اقليم صحراوي واسع ينزل جنوبا مع وادي الساورة الذي يسمى طريق النخل حتى مصبه بسبخة المخرقن في قلب الصحراء، و يتسع شرقا في واحات متلاحقة و قصور كثيرة، من اشهرها تيمي، و تيمنطيط ام القرى التي غلب عليها اسم توات عند الإطلاق.
من الأسر العريقة في توات العصنونيون الذين توارثوا العلم و القضاء في هذه المنطقة منذ ايام المرينيين، و كان منهم في العصر السعدي:
– عبد الله بن ابي بكر العصنوني التواتي (ت. 927 هـ/1521م) ، فقيه متمكن مارس التدريس و الافتاء و القضاء بتوات مدة طويلة، و عارض بلدية محمد بن عبد الكريم المغيلي فيما كان يراه من نقض ذمة اليهود و اباحة دمائهم و اموالهم، فكان ذلك سببا في استفتائهما علماء المغاربة، و كانت معارضة اغلبية الفقهاء لراي المغيلي المتطرف و مناظرته علماء فاس في الموضوع.
– سالم بن محمد ابن ابي بكر العصنوني التواتي (ت. 968 هـ/1560م) ابن اخي من قبله و تلميذه. تخرج فقيها مشاركا على علماء توات وسوس و تلمسان و اشتغل في تيمنطيت على عادة قومه بالتدريس و الافتاء، ثم ولي القضاء هناك فحمدت سيرته، ووصل نفوذه الى بلاد السودان
مشهد يوضح عودة العمل الى حالته الطبيعية في منجم فوسفاط بوكراع الذي يقع بالقرب من مدينة العيون، تحت الادارة الجديدة و التي تضم كل من المكتب الشريف للفوسفاط و المعهد الاسباني للصناعة. و يضم هذا المعمل 800 مستخدم بين عمال و تقنيين على اختلاف مستوياتهم.
– عبد الرحيم بن عبد الله العصنوني التواتي فاسلم على يده عدد كثير من الوثنيين، و في ضمنهم سلطان كاني نفسه.
(ت. نحو 990 هـ/1582م) عالم مشارك مبرز في النحو و الفقه، له عارضة قوية في الحفظ و الفهم. درس في المشرق على يد اكابر علماء مصر و الشام قبل ان يرجع الى قريته الصحراوية مملوء الوطاب ماضي العزم في افادة الطلبة من بني قومه.
– محمد بن محمد ابن ابي بكر العصنوني التواتي (ت. 1010هـ/1602م) ، فقيه محدث حيسوبي فرضي. درس في الصحراء والسودان ومراكش، وحصل على سند عال في الحديث يتصل بالحافظ ابن حجر، و سلك مسلك اسلافه في التدريس بتوات وقد اقام مدة يدرس بمراكش في جملة الوافدين عليها من العلماء، و تدبج مع احمد ابن القاضي فاجازه في الحديث، واخذ هو الحساب و الفرائض عن ابن القاضي.
تلك إشارات عابرة ونماذج قليلة للالتحام العضوي القائم بين المغرب و صحرائه الكبرى طوال العصر الإسلامي.
المصدر: مجلة دعوة الحق، العدد: 168