نقدم وثيقة هي عبارة عن مراسلة تمثل نموذجاً غنياً للأسلوب السياسي والاجتماعي في أوائل القرن العشرين. وتوضح الجهد الكبير الذي اشتغل به الشيخ ماء العينين في التعبئة السياسية للقبائل الصحراء تحت راية السلطان للجهاد ضد القوى الاستعمارية، وهذا نص الرسالة:
الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد واله وصحبه وسلم
اصدقائنا الأقربون أحبائنا الأكرمون الأقربون الأحمدون الأطهرون الأطيبون الأسياد، جماعة “ايت وعيش” عموما وخصوصا، وطررا1 ونصوصا، كل واحد منكم باسمه وخالص واسمه، لا سيما أهل الحل والعقد منكم ،كـ”آل سويد أحمد” السلام عليكم ورحمه الله وبركاته ما دام الكون وحركاته.
أما بعد..
فليكن في كريم علمكم أن السلطانه نصره الله وجهه إلينا ابن عمه، خليفته، نائبا عنه في كل ما أهمكم الآن أو قبل من الأمور كلها، لاسيما أمر النصارى دمرهم الله، لانه ولله الحمد، أرسله بالوقوف على ساق الجد حتى تعلو كلمه الإسلام، ويقضي بحول الله كل مرام.
والآن لابد من الاتيان، ولْيأتِ الأمر منكم، لتقع المشافهه مع الخليفة على أيدينا. كما أن السلطان نصره الله كتب لنا بذلك، ليحصل لكم بها كل غرض فيما مضى وما عرض، لأنا كتبنا لأمير المؤمنين نصره الله انكم في تلك البلاد انتم أهل شوكتها وأهل حلها وعقدها، ونراكم تفوزون بهذه السبقية إن شاء الله تعالى.
كان الله لنا ولكم وليا ونصيرا وعلى سائر الأعداء ظهيرا وبلغكم أقصى المرام بالتمام وعلى خالص المحبة والسلام لإحدى عشر بقيت من جمادى الأولى عام 1323هـ.
عبيد ربه ماء العينين ابن شيخه الشيخ محمد فاضل ابن مامين غفر الله لهم وللمسلمين آمين.

السياق التاريخي والديني للمراسلة
تعود هذه المراسلة إلى فترة زمنية حرجة من تاريخ المغرب، وهي أوائل القرن العشرين (1323 هـ/1905م)، حين كانت البلاد تواجه ضغطاً متزايداً من القوى الاستعمارية الأوروبية، وخاصة فرنسا وإسبانيا. وتضمين عبارة “النصارى دمرهم الله” إشارة واضحة إلى تحدي تصاعد التهديد الاستعماري الذي واجهته البلاد، ودور القبائل كخط دفاع أساسي في هذا الصراع.
الجهة المُرسل إليها هي قبيلة “أيت وعيش”، وهي إحدى القبائل المغربية ذات النفوذ المحلي، التي وصفها الشيخ ماء العينين بأنها “أهل شوكتها وأهل حلها وعقدها”، ما يشير إلى أهميتها كقوة اجتماعية وسياسية وعسكرية في المنطقة. كما أن المراسلة خصّت زعماء القبيلة أو نخبها القيادية، الذين أُطلق عليهم وصف “أهل الحل والعقد”، وهو تعبير يعكس مكانتهم في اتخاذ القرارات المصيرية.
الطابع الديني للمراسلة بارز، إذ يبدأ النص بتحميد الله والصلاة على النبي محمد، وهو تقليد شائع في المراسلات الرسمية والدينية في ذلك العصر. التركيز على علو كلمة الإسلام ومقاومة النصارى يعكس الخطاب الجهادي الذي كان يُستخدم كوسيلة لتعبئة القبائل وتوحيد صفوفها تحت راية السلطان باعتباره الحامي للديار الإسلامية. دور الشيخ ماء العينين كشخصية دينية وصوفية بارزة يظهر في توقيعه، وهو ما يُضفي على الرسالة شرعية روحية قوية، خصوصاً أن الشيخ ماء العينين كان معروفاً بمقاومته للاستعمار ودعمه للسلطة المركزية في المغرب.
المضمون السياسي والاجتماعي للمراسلة
المراسلة موجهة إلى قبيلة “أيت وعيش”، مع تخصيص زعمائها بـ”أهل الحل والعقد”، ما يعكس أهمية الزعامات القبلية في النظام السياسي والاجتماعي آنذاك. الرسالة تدعو إلى التواصل المباشر مع الخليفة، أحد أبناء عم السلطان الذي عُيّن ممثلاً سلطانياً للتعامل مع شؤون القبيلة. هذا التعيين يعبر عن سياسة السلطان في تعزيز سلطته عبر الزعامات المحلية وتنظيم القوى القبلية لمواجهة الاستعمار.
تُظهر المراسلة أيضاً دوراً دبلوماسياً يتمثل في استخدام عبارات الإطراء والمدح مثل “الأحباء الأكرمون” و”الأحمدون الأطهرون”، مما يُظهر احترام السلطان للقبائل وإقرار أهميتها. ومع ذلك، يبرز توجيه حازم في عبارات مثل “لا بد من الإتيان” و”لتقع المشافهة”، ما يعكس استعجال السلطة المركزية في توحيد الجهود وتحقيق الأهداف.
تشير المراسلة إلى بنية اجتماعية تقليدية تعتمد على الولاء للسلطان والتشاور مع القبائل الكبرى التي كانت تعتبر ركيزة أساسية للسيادة المحلية. وصف القبيلة بـ”أهل شوكتها” يعزز هذه الرؤية، حيث يُعترف بدور القبائل كقوة عسكرية واجتماعية في إدارة شؤون البلاد.
من جهو أخرى، تؤكد هذه المراسلة، أن “هذا الشيخ نائب السلاطين المغاربة في الصحراء، لا يقدم على أي أمر إلا بمشاورتهم وبإذن منهم. لهذا عظم صيته ونفوذه لدى المخزن، إلى درجة أنه كانت تخصص له أثناء القدوم إلى مراكش وفاس استقبالات تليق بمقامه يشارك فيها العلماء والقضاة وكبار الجيش والعسكر وأصحاب الموسيقا، كما كان يرجع إلى الصحراء بعد هذه الزيارات مملوء الحقائب موفور الرغائب بغيره موقورة وبايدي الجناب المولوي مصونة. ولقد توطدت مكانة هذا الشيخ لدى هؤلاء السلاطين حسب أصحاب هذا الاتجاه، عندما تزايدت أطماع وتحرشات الاسبانية في شمال المغرب وجنوبه، لهذا ولاه السلطان مولاي الحسن الأول تولية تامة شاملة على بلاد بني بعمران بسوس الأقصى ومن ورائهم بني جرار ومن فوقهم من الجزوليين قبيلة بعد قبيلة من الأعرابيين بالصحراء كلهم من بني بعمران إلى وادي نون إلى الساقية الحمراء والطرفاية إلى منتهى العمارة من إيالتنا لتلكم البلاد نائبها. أمر الله بأمرنا المعتز بالله (نور الدين بالحداد. 257 – 2008).
الخلاصة
تمثل هذه المراسلة نموذجاً يجمع بين الخطاب الديني والتعبئة السياسية في فترة من التحديات الكبرى التي واجهها المغرب. الرسالة تعبر عن سعي السلطة المركزية، ممثلة بالشيخ ماء العينين وخليفة السلطان، إلى حشد دعم هذه القبيلة والزعامات المؤثرة فيها لتوحيد الجهود في مواجهة الخطر الاستعماري المتصاعد.
وبالتالي فهي توثيق للتنسيق بين السلطة المركزية والزعامات القبلية لمواجهة النفوذ الاستعماري، مع الاعتماد على الشرعية الدينية والسياسية للسلطان وممثليه. استخدام لغة الإطراء والدعاء يعكس تقاليد المراسلات آنذاك، بينما يُبرز التركيز على الوحدة والتعبئة أهمية القبائل في صمود المغرب أمام الأطماع الاستعمارية.
- الطرر: التعليقات والحواشي القصيرة التي تكون على هامش النص ↩︎